معنى إسرائيل | فصل

كتاب «معنى إسرائيل» للمؤرّخ اليهوديّ يعقوب م. رابكن

 

صدرت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2021 عن «المركز الفلسطينيّ للدراسات الإسرائيليّة - مدار» ترجمة كتاب «معنى إسرائيل» للكاتب والمؤرّخ اليهوديّ يعقوب م. رابكن، ترجمه وقدّم له الناقد والكاتب الفلسطينيّ حسن خضر.

بحسب رابكن، فإنّ: "أغلب الخلاصات السياسيّة في الكتاب، تنتمي إلى نقد ظاهرة التوسّع الكولونياليّ الغربيّ، والرؤى الأيديولوجيّة والسياسيّة لحركات التحرّر القوميّ في المستعمرات، الّتي خفّت حدّتها في العقود القليلة الماضية، في ظلّ الموجة الصاعدة لليمين القوميّ والدينيّ في العالم على جناح العولمة، والليبراليّة الجديدة".

يقع الكتاب في 294 صفحة موزّعة على تسعة فصول، وتكمن أهمّيّته في كونه يقدّم نقدًا ضدّ الصهيونيّة وإسرائيل بأدوات ومرجعيّات دينيّة يهوديّة تضيء بكثافة على حيثيّات المعارضة اليهوديّة التاريخيّة للصهيونيّة، عبر اقتباس مصادر حاخاميّة غير شائعة في سياق هذا النقد.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب بإذن من الناشر.

 


 

قد تبدو العلاقة، للوهلة الأولى، بين اليهود وأرض إسرائيل متناقضة[1]. على الرغم من أنّها تحظى بمكانة ذات امتياز في الهويّة اليهوديّة، فإنّ اليهود لم يحاولوا أبدًا، في تاريخهم الطويل قبل الصهيونيّة، على مدار ألفيّتين، الاستقرار هناك بشكل جماعيّ. ولا ينبغي أن تكون ثمّة مفاجأة أنّ المصادر الدينيّة اليهوديّة لا تتكلّم بصوت واحد، إذا تعلّق الموضوع بالحدود الجغرافيّة. فالوعد الإلهي لأبراهام لا ينطوي بأيّ طريقة على وعد بادّعاء امتلاك ’أرض الميعاد‘، كما يتجلّى بوضوح في إصرار أبراهام على دفع الثمن مقابل قطعة الأرض الّتي سيدفن فيها زوجته سارة [التكوين 23: 13-6]. فـ ’أرض الميعاد‘ لا تعني في الواقع أنّها تعود لمن أُعْطِيَ الوعد، بل لمَنْ أَعطى الوعد. وحسب يحيئيل جاكوب واينبرج، الحجّة الحاخاميّ، الّذي طوّر التوليف الإبداعيّ بين اليهوديّة الليتوانيّة والأرثذوكسيّة الألمانيّة: "القوميّة اليهوديّة تختلف عن قوميّة كلّ الأمم، بمعنى تفرّدها بروحانيّتها، وروحانيّتها لا شيء سوى التوراة.. وفي هذا الجانب تختلف عن الأمم الأخرى، ومَنْ لا يعترف به ينكر المبدأ الأساس لليهوديّة"[2].

الحدث المؤسّس للهويّة اليهوديّة هو التجلّي على جبل سيناء. لحظة عطيّة التوراة المكتوبة، أو المُستلهمة، من الإله، الّتي يحتفي بها التراث بوصفها "مولد شعب إسرائيل"...

الحدث المؤسّس للهويّة اليهوديّة هو التجلّي على جبل سيناء. لحظة عطيّة التوراة المكتوبة، أو المُستلهمة، من الإله، الّتي يحتفي بها التراث بوصفها "مولد شعب إسرائيل". والمراجع الدينيّة اليهوديّة تعود بأصل اليهود إلى تجربة الخروج المشتركة من مصر، وتلقّي التوراة على جبل سيناء. وما ميّز اليهود كجماعة هو التزامهم بتعاليم التوراة. على الرغم من أنّها تزخر بفصول من التعدّيات والنسيان، من طرف أبناء إسرائيل، فإنّ علاقتها المُحدِّدة والمعياريّة، بهم ما زالت مستمرّة حتّى الآن.

وأكثر من كونها هويّة جغرافيّة، فإنّ هذه العلاقة، والتعهّد باتّباع وصايا التوراة، هما العلامة المميّزة تقليديًّا لليهود، وما يجعل منهم ’شعبًا مختارًا‘، المفهوم الّذي يفترض مسؤوليّات أخلاقيّة وشعائريّة، لا التفوّق الفعليّ. ويمكن استنتاج مدى قابليّة هذا المفهوم للتشويه لتبرير مواقف استعلائيّة، وحتّى عنصريّة. وكما في كلّ ديانة، فإنّ مكانة «المختار»، الّتي يكمن معناها في تنفيذ التعاليم الدينيّة اليهوديّة، قد تكون مصدرًا لإحساس بالتفوّق الوجوديّ، خاصّة في هذه الأيّام، الّتي وهنت فيها الروابط بين اليهود وميراثهم الروحيّ.

 

التراث مضادًّا للفكرة القوميّة

بالمعنى العريض للكلمة، يقدّم التراث اليهوديّ مضادًا قويًّا للعنصريّة بالكلام عن أصول شخصيّة مركزيّة كالمخلّص، إذ يتّفق الحكماء على خروجه من نسل الملك داوود، ويبدو أنّ في هذا ما يُضفي عليه هيبة أفضل، ولكنّ الحكماء أنفسهم عادوا بأصل المخلّص إلى ثلاث مبادرات نسويّة جسورة، لكلّ من روث، تمار، وابنتيّ لوط.

كانت روث أرملة مؤابيّة، وهم قوم تعود أصولهم، حسب الرواية التوراتيّة، إلى ابنتيّ لوط. فخوفًا من نهاية العالم، سقت البنتان أباهما خمرًا، وحملتا منه، وولدت البكر موآب، جدّ روث [التكوين 38-19: 30]، وروث هي الّتي أخذت مصيرها على عاتقها بالتقرّب إلى بوعز، فـ "دخلت سرًّا وكشفت ناحية رجليه واضطجعت، وكان عند انتصاف الليل أنّ الرجل اضطّرب، والتفت وإذا بالمرأة مضطّجعة عند رجليه" [راعوث 8-3:7]. ويمكن العودة بأصل بوعز نفسه إلى قصّة تمار [التكوين: 30-1:38]، الّتي تزوّجت على التوالي باثنين من أولاد ليهوذا ابن يعقوب. وكان أن شهدت وفاة زوجيها، وصار لزامًا على الثالث الزواج منها، حسب شرعة الزواج من أرملة الأخ، ولكنّ يهوذا أعادها إلى أبويها بذريعة أنّ ابنه كان قاصرًا. وحتّى بعدما بلغ سنّ الرشد، لم يكن يهوذا قد حسم أمره خوفًا من موت ابنه الصغير كأخويه، ولم تعد تمار تستطيع الانتظار أكثر، فتخفّت في زيّ عاهرة، ونامت مع يهوذا وأنجبت توأمًا، كان أحدهما جدّ بوعز.

تتغلّب النساء في حالات الموت الثلاث هذه، على فاجعة الموت بالإصرار على الحياة من خلال مبادرة الحمل والإنجاب. ولكنّ التراث اليهوديّ، فوق هذا كلّه، يُشدّد على الأصول المتواضعة للمخلّص. منقذ العالم الموكل بعودة اليهود إلى أرض الميعاد. بما يحدّ من غواية الادّعاء بسموّ أصله.

ولا تشدّد النصوص التوراتيّة على الأصل الإلهيّ للتوراة وحسب، ولكن على حقيقة أنّها أعطيت خارج أرض إسرائيل أيضًا. حسب أسفار موسى الخمسة، فإنّ اليهود، وبشكل أدقّ بني إسرائيل، لا يرجع أصلهم إلى أرض إسرائيل. فقد ظهروا كجماعة في مصر، ونتيجة قبولهم للتوراة، فقط، تمّ تكريسهم كجماعة مختلفة قرب جبل سيناء. ومن الواضح أنّ التطهّر الروحانيّ، الضروريّ لدخول الأرض المقدّسة، وقع خارجها، خلال 40 عامًا من التيه في الصحراء. وكما بيّن العديد من المعلّقين، فإنّ الأرض المقدّسة لا تطهّر اليهود[3]، ولكنّ خطاياهم يمكن أن تُدنّس الأرض الّتي ’ستلفظهم‘ خارجها [اللاويّين 28:18].

ويُعرّف التراث العلاقة بالأرض المقدّسة في صيغ مشروطة: "فاحترزا من أن تنغوي قلوبكم فتزيغوا وتعبدوا آلهة أخرى وتسجدوا لها. فيحمى غضب الربّ عليكم ويغلق السماء فلا يكون مطر ولا تُعطي الأرض غلّتها، فتبيدون سريعًا عن الأرض الجيّدة الّتي يعطيكم الرب" [التثنية 17-16: 11].

حسب أسفار موسى الخمسة، فإنّ اليهود، وبشكل أدقّ بني إسرائيل، لا يرجع أصلهم إلى أرض إسرائيل. فقد ظهروا كجماعة في مصر، ونتيجة قبولهم للتوراة، فقط، تمّ تكريسهم كجماعة مختلفة قرب جبل سيناء

وغالبًا ما تقارن هذه الملكيّة المشروطة بزواج بين اثنين، تدوم العلاقة قدر التزامهما بقواعد وإجراءات معيّنة، وإن كفّا، تنتهي بالطلاق. والملاحظ عند الاحتفال بعطيّة التوراة، في بعض الكُنُس، قراءة لفيفة «الكتبة» عقد الزواج الّذي ختم العلاقة بين التوراة ’العروس‘ ومختارها ’شعب إسرائيل’، فمن الأفكار المهيمنة على الحفل تكريس علاقة اليهود بأرض إسرائيل.

كما ويؤكّد التراث على مخاطر بالغة للعيش في الأرض المقدّسة، إذ يُقارن أرض إسرائيل بالقصر الملكيّ الّذي ينطوي ارتكاب خطيئة فيه على عقاب عاجل وكبير. ويشير الحاخام إسرائيل مئير كاجان (1838 – 1933)، المعروف أكثر باسم حافيتس حاييم، إلى الخطر الداهم للعيش في الأرض المقدّسة في ظلّ تنحية التوراة ووصاياها جانبًا. وهو الخوف نفسه من التعدّي على التوراة في الأرض المقدّسة، الّذي حال دون مسعى بسطاء اليهود، ممّن فكّروا في احتمال الوقوع في المعصية، للإقامة في إسرائيل. لذا، تختلف العلاقة بين اليهوديّ وأرض إسرائيل، من حيث الكيف، عن علاقة الفرنسيّ بفرنسا والروسيّ بروسيا.

 

الرؤيويّة ضدّ الدنيويّة

يميل التراث اليهوديّ إلى إرجاع كافّة الكوارث، وحتّى أصغر الحوادث، إلى الفشل الأخلاقيّ. وحسب هذا التراث، فإنّ أرض إسرائيل لا يمكن الحصول عليها إلّا من خلال التأثير العامّ للأعمال الخيّرة، فقط كجزء من المشروع الخلاصيّ، خلافًا لعمليّتيّ الاستحواذ من جانب يوشع، وتلك الّتي أعقبت العودة من بابل، فكلتاهما تحقّقت بقوّة دنيويّة. لذا، تبقى قابلة للتحقّق، دائمًا، بتدخّل مباشر من الربّ.

وعلاوة عليه، لم تعد سوى أقلّيّة من يهود بابل إلى أرض إسرائيل، مع عزرا ونحميا، اللّذين استعادا الاستقلال السياسيّ بعد دمار الهيكل الأوّل. لذا، عزّز تدمير الهيكل الثاني، الّذي وقع بعد عدّة قرون، مكانة المنفيّين المقبولة من طرف غالبيّة اليهود، ولم يُحْدِثْ تغييرًا عميقًا في هويّاتهم.

وعلى هذا النحو، لم يعرف اليهود سوى القليل من حالات ’التبلور السياسيّ‘؛ سلالة الهاسمونيّين، خانيّة الخزر وإمارات يهوديّة أنشِئَت في اليمن والمغرب، قامت إلى حدّ بعيد على اعتناق اليهوديّة[4]. ونلاحظ هنا، أيضًا، هامشيّة اليهود بالنسبة للتاريخ السياسيّ للعالم، ومركزيّتهم في تطوّره الدينيّ. فالشتات في التراث اليهوديّ، بقطع النظر عن ظروفه التاريخيّة، هو فوق كلّ شيء آخر حالة من النقصان الروحانيّ، فقدان للاتّصال بالحضور الإلهيّ، لا غربة عن مكان بالمعنى الفيزيائيّ والفعليّ للكلمة.

لذا، فإنّ رفض أتقياء اليهود الارتباط بالسلطة السياسيّة في ’أرض إسرائيل‘ يشكّل جزءًا لا يتجزّا من الديانة اليهوديّة. ولا يمتّ موقفهم بصلة إلى فكرة السلبيّة المتعالية. وبهذا يجب أن يُرى كفعل مُقاوِم، دائم الصعوبة، وشجاع، ضدّ الشعور بالتضامن القوميّ، الّذي يرى فيه بعض المفكّرين اليهود غواية قويّة على نحو خاصّ. ونجد موقفين ينشط كلاهما على طريقته، وفي مجابهة مع الآخر، إذ يصرّ أصحاب الالتزام بالتراث اليهوديّ على: "لم نذهب إلى المنفى لأنّنا لم نكن ملك «الهاجناه»، ولم يكن لدينا قادة سياسيّون من طراز هرتسل وبن غوريون لتوجيهنا على هذه الطريق. بل نحن في المنفى لأنّنا حظينا بالقادة، واقتفينا أثرهم. والأكيد أنّ الخلاص اليهوديّ لن يأتي عبر وسطاء كهؤلاء، الهاجناه وهرتسل وبن غوريون"[5].

رفض أتقياء اليهود الارتباط بالسلطة السياسيّة في ’أرض إسرائيل‘ يشكّل جزءًا لا يتجزّا من الديانة اليهوديّة. ولا يمتّ موقفهم بصلة إلى فكرة السلبيّة المتعالية

يعتنق الطبيعة الإعجازية للخلاص، وهذا مفهوم كلاسيكيّ في اليهوديّة، التقليديّون وأتباع اليهوديّة القوميّة، الحركة الّتي يرجع أصلها إلى ما قبل قرن مضى إلى الإمبراطوريّة الروسيّة، والّتي أطلقت على نفسها اسم «مزراحي» (شرقيّ، وأيضًا اختصارًا لـمركاز روحانيّ «المركز الروحانيّ»). وخلافًا للتحذيرات الّتي أطلقها مؤسّسو «مزراحي»، يؤكّد أتباع اليهوديّة القوميّة اليوم أنّ المشروع الصهيونيّ ليس غير تحقيق الإرادة الإلهيّة. «أصبع الإله» الّذي تجلّى خلال الهروب من مصر. ويتّفق الطرفان على أنّ الدمار الكامل يسبق الخلاص، ولكنّهما يختلفان على تعريف الدمار.

وبينما تقول أيديولوجيا اليهوديّة القوميّة إنّ الدمار بلغ خاتمته في العام 1945، وأنّ مذابح النازيّين ضدّ اليهود وفّرت نقطة انطلاق للخلاص، يؤكّد المنظّرون الحاخاميّون المناهضون للصهيونيّة العكس، والعكس في نظرهم هو الصحيح، فمأساة اليهود في أوروبا بداية لعمليّة دمار طويلة يُسهِمُ وجود دولة إسرائيل في تفاقمها. وسيتمّ، في نظرهم، إبطال كلّ منجزات المشروع الصهيونيّ قبل وصول المخلّص، الّذي سيجد الأرض المقدّسة في حالة خراب تامّ.

ومن هذا المنظور، الّذي ينكر بشكل قاطع أدنى شكل للخلاص الصهيونيّ، تبدو دولة إسرائيل حجر عثرة في طريق الخلاص. فتجميع ملايين اليهود في هذا المكان المحفوف بالمخاطر، حسب هذا النهج، يتاخم حدّ الحماقة الانتحاريّة. كما أنّ إعادة التعمير المادّيّة للأرض المقدّسة على يد الملاحدة سيجلب المزيد من الخراب الروحانيّ أيضًا. يظهر الصهيونيّ كمذنب في تعريض شعب إسرائيل لمنفى أشدّ حتّى رعبًا وقساوة من عمليّتيّ النفي السابقتين. وغالبًا ما تتمّ إعادة التأكيد هذا التحذير في الخطاب الحاخاميّ[6].

 


إحالات

[1] Shlomo Avineri, The Making of Modern Zionism: The Intellectual Origins of the Jewish State, New York: Basic Books, 1981, p. 13.

[2] Jehiel Jacob Weinberg, quoted in Marc Shapiro, Between the Yeshiva World and Modern Orthodoxy, London: Littman Library of Jewish Civilization, 1999, pp. 98–9.

[3] Biblical quotations are taken from The Torah: the Five Books of Moses, Philadelphia: Jewish Publication Society of America, 1962; The Prophets: Nevi’im, Philadelphia: Jewish Publication Society of America, 1978, and The Writings: Kethubim, Philadelphia: Jewish Publication Society of America, 1982.

[4] Aviezer Ravitzky, Messianism, Zionism, and Jewish Religious Radicalism, Chicago, Ill.: University of Chicago Press, 1996, p. 46;

[5] Yeshayahu Leibowitz, Peuple, Terre, Etat [People, Land, State], Paris: Plon, 1995, pp. 95–6.

[6] Israel Domb, Transformation. The Case of the Neturei Karta, Brooklyn, N.Y.: Hachomo, 1989, p. 20.


 

يعقوب م. رابكن

 

 

 

مؤرّخ ومؤلّف يهوديّ وأستاذ «التاريخ» في «جامعة مونتريال». تتناول أعماله العلاقات بين العلم والتكنولوجيا، البحث في الجوانب الثقافيّة للعلم، ودراسات اليهود في المهنة العلميّة، والعلوم بين القوى العظمة. شارك في تحرير «Demodernization: a Future in the past».